
يعيش المغرب على وقع نقاش مجتمعي وقانوني واسع النطاق ومحتدم في بعض جوانبه، يتمحور حول مراجعة شاملة لمدونة الأسرة (قانون الأحوال الشخصية). هذا الورش الإصلاحي الهام، الذي أطلقه العاهل المغربي الملك محمد السادس في خطابين رئيسيين عامي 2022 و2023، ينطلق من قناعة بأن المدونة الحالية، التي تم إقرارها عام 2004 وشكلت آنذاك قفزة نوعية مقارنة بما سبقها، أصبحت غير كافية لمواكبة التطورات العميقة التي شهدها المجتمع المغربي على مدى العقدين الماضيين، ولم تعد تستجيب بشكل كامل لتطلعات جميع مكونات الأسرة المغربية.
وقد أنهت الهيئة الاستشارية المكلفة بمراجعة المدونة، والتي ضمت تشكيلة متنوعة شملت ممثلين عن هيئات قضائية وحكومية ومؤسسات دينية (المجلس العلمي الأعلى) وحقوقية (المجلس الوطني لحقوق الإنسان)، أعمالها مؤخرًا، وسلمت مقترحاتها الأولية إلى الديوان الملكي، وذلك بعد أشهر من جلسات الاستماع المكثفة والمشاورات الواسعة مع مختلف الفعاليات السياسية والنقابية والحقوقية والجمعوية والأكاديمية في البلاد.
أثارت بعض التسريبات والمقترحات التي تم الكشف عنها أو تداولها في وسائل الإعلام جدلًا كبيرًا وانقسامًا واضحًا في الرأي العام المغربي. يمكن تمييز تيارين رئيسيين في هذا النقاش: تيار يضم قوى حداثية وجمعيات نسائية وحقوقية يدعو إلى تحديث جذري وشامل للمدونة يواكب التطورات الاجتماعية والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان التي صادق عليها المغرب، ويضمن المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة ويرفع كل أشكال التمييز.
وفي المقابل، هناك تيارات أخرى محافظة، تتمسك بالمرجعية الإسلامية كما يتم تفسيرها وتطبيقها في المغرب (خاصة المذهب المالكي)، وترفض بشدة المساس بما تعتبره نصوصًا دينية قطعية الثبوت والدلالة، محذرة من تفكك الأسرة وضرب الهوية الإسلامية للمجتمع. تتركز نقاط الخلاف الرئيسية حول قضايا حساسة تمس جوهر العلاقات الأسرية والمجتمعية، مثل الولاية الشرعية والقانونية على الأبناء، وزواج القاصرات، وتعدد الزوجات، وتدبير واقتسام الأموال المكتسبة خلال فترة الزواج، وإثبات النسب للأطفال المولودين خارج إطار الزواج، وقواعد الميراث.
من أبرز المقترحات التي تم تداولها وتخضع للنقاش، مقترح جعل النيابة القانونية على الأبناء حقًا مشتركًا بين الأبوين، سواء أثناء قيام العلاقة الزوجية أو بعد انفصالها بالطلاق، بدلًا من كونها حكرًا على الأب حاليًا (مع كون الولاية للأم في حالات محددة). ويعد هذا مطلبًا أساسيًا للعديد من الجمعيات النسائية والأمهات الحاضنات اللاتي يواجهن صعوبات إدارية وقانونية جمة في تدبير شؤون أبنائهن اليومية (كاستخراج جواز السفر، التسجيل في المدارس، إلخ).
كما تشمل المقترحات تعزيز حق الأم المطلقة في حضانة أطفالها حتى في حال زواجها مرة أخرى، وهو حق مقيد حاليًا، مع وضع ضوابط جديدة ومنصفة لزيارة المحضون أو السفر به، تهدف بالأساس إلى تغليب المصلحة الفضلى للطفل. وفيما يتعلق بملف زواج القاصرات الشائك، يتجه النقاش نحو تشديد الرقابة القضائية الصارمة على الاستثناءات التي تسمح بزواج من هم دون سن الأهلية القانونية (18 عامًا)، والتي أظهرت الممارسة العملية أنها أصبحت القاعدة وليست الاستثناء في بعض المناطق. وتتراوح المقترحات بين إلغاء هذه الاستثناءات بالكامل، أو تحديد حد أدنى جديد للاستثناء عند 17 أو 16 سنة بشروط صارمة جدًا يصعب تحقيقها.
أما بالنسبة لتعدد الزوجات، فتشير المقترحات المتداولة إلى مزيد من التقييد للشروط التي تسمح به، بحيث يصبح مرتبطًا بوجود “مبرر موضوعي استثنائي” يقدره القضاء بشكل دقيق، مع تعزيز حق الزوجة الأولى في الموافقة الصريحة أو الرفض، وإمكانية تضمين شرط عدم التعدد كبند ملزم في عقد الزواج الأصلي. وفي الجانب المالي الذي يثير الكثير من النزاعات عند الطلاق، تقترح التعديلات وضع إطار قانوني واضح ومنظم لتدبير الأموال المكتسبة أثناء الزواج، يأخذ في الاعتبار مساهمة كلا الزوجين في تنميتها، سواء كانت مساهمة مالية مباشرة أو من خلال العمل وتوفير الظروف المناسبة لذلك، مع التأكيد على ضرورة تثمين عمل الزوجة المنزلي ورعايتها للأسرة كجزء من هذه المساهمة.
كما تشمل المقترحات إعادة النظر في معايير تقدير نفقة الأبناء ومتعة المطلقة لتكون أكثر إنصافًا وعدالة وتوحيدًا بين مختلف المحاكم، وإقرار وجوب النفقة على الزوجة بمجرد إبرام عقد الزواج وليس فقط بعد البناء، بالإضافة إلى مقترح لافت يهدف للحماية الاجتماعية، وهو إقرار حق الزوج الباقي على قيد الحياة (أرمل أو أرملة) في الاحتفاظ ببيت الزوجية بعد وفاة الطرف الآخر بشروط معينة، لحمايته من التشرد خاصة في حالة وجود أبناء قاصرين.
تتضح حدة الانقسام بشكل خاص في القضايا التي تمس بشكل مباشر تفسيرات النصوص الدينية، لا سيما فيما يتعلق بالنسب والميراث. فقد أحالت الهيئة المكلفة بالتعديل بعض المقترحات الخلافية جدًا في هذا المجال إلى المجلس العلمي الأعلى، وهو المؤسسة الدينية الرسمية المخولة بإصدار الفتاوى في المغرب، لإبداء الرأي الشرعي فيها.
ووفقًا لتصريحات رسمية وتسريبات موثوقة، وافق المجلس العلمي على أغلب التعديلات المقترحة التي تهدف إلى تعزيز حقوق الأسرة واستقرارها وتتماشى مع مقاصد الشريعة في العدل والإحسان، مثل تلك المتعلقة بالنيابة القانونية المشتركة، وحضانة الأم المتزوجة، وتثمين عمل الزوجة، واستثناء بيت الزوجية من التركة بشروط. إلا أن المجلس أعرب عن رفضه القاطع لثلاث نقاط أساسية، معتبرًا أنها تتعارض بشكل صريح مع نصوص شرعية قطعية الثبوت والدلالة لا مجال للاجتهاد فيها.
وتشمل هذه النقاط المرفوضة: استخدام الخبرة الجينية (فحص الحمض النووي DNA) بشكل مطلق لإثبات نسب الأطفال المولودين خارج إطار الزواج الشرعي وإلحاقهم بآبائهم البيولوجيين، وإلغاء قاعدة “التعصيب” في الميراث (التي تعطي الأقارب الذكور حصصًا أكبر في بعض الحالات المحددة حتى مع وجود بنات)، والسماح بالتوارث بين المسلم وغير المسلم.
واقترح المجلس حلولًا بديلة ضمن الإطار الشرعي لمعالجة بعض الإشكالات الواقعية المتعلقة بهذه القضايا، مثل اللجوء إلى آليات الهبة والصدقة والوصية الإرادية والتنزيل. وقد فوض المجلس العلمي الأمر في هذه النقاط الخلافية الكبرى إلى الملك، بصفته أمير المؤمنين ورئيس المجلس العلمي الأعلى، للبت فيها بما يراه محققًا للمصلحة العليا للأمة ومقاصد الشريعة.
التعليقات