
في قلب الريف المصري، حيث تُروى الحقول بالكدّ والتعب قبل أن تُروى بالماء، وحيث يزرع الفلاح حُلمه في تربة تُصارع موجات الحر والجفاف، يشتد أثر التغيرات المناخية يومًا بعد يوم، مهددًا لقمة العيش في قُرى عاشت على الزراعة قرونًا. لم تعد الأرض تعطي كما كانت، ولم يعد المطر ضيفًا منتظمًا، وصارت فصول الزراعة تختلط كما تختلط علامات القلق على وجوه الفلاحين.
وسط هذا المشهد القاسي، تُطل مبادرات التنمية المحلية من نافذة الأمل، تقودها منظمات المجتمع المدني بالشراكة مع برنامج المنح الصغيرة التابع لمرفق البيئة العالمية (GEF/SGP)، في محاولة جادة لجعل الزراعة جزءًا من الحل لا الضحية. المشهد هنا لم يعد فقط عن المحاصيل، بل عن الاستدامة، عن تقنيات حديثة تروي التربة وتُحافظ على الماء، وتدعم الفلاح والمرأة معًا.
نصف أراضي العالم مهددة
دراسة نُشرت مؤخرًا في مجلة Nature Food تكشف أبعادًا صادمة للتغيرات المناخية: أكثر من نصف الأراضي الزراعية على الكوكب مهددة بفقدان صلاحيتها لزراعة المحاصيل بحلول منتصف هذا القرن، إذا ما تجاوز الاحترار العالمي درجتين مئويتين. الأرقام أشد قسوة في المناطق القريبة من خط الاستواء، حيث قد يخسر 70% من الأراضي تنوعها الزراعي.
والمُلفت أن المحاصيل الأساسية عالميًا—كالقمح والأرز والذرة والبطاطس وفول الصويا—تتجه جميعها نحو دائرة الخطر، بينما ستتأثر المحاصيل الجذرية الاستوائية بشكل خاص، ما يضع الأمن الغذائي لمليارات البشر على المحك.
التوصيات العلمية واضحة: لا بد من كبح ارتفاع الحرارة العالمية دون 2° مئوية، ودعم الدول النامية في تبني ممارسات زراعية ذكية ومقاومة للمناخ، واستثمار التكنولوجيا والبحث العلمي في الزراعة المستدامة

الزراعة المصرية تحت المجهر: خسائر وتحديات
مؤشرات نتائج الدراسات العلمية عن أحوال تأثيرات التغيرات المناخية على الزراعة في مصر لم تكن أفضل حالًا كما تشير نتائج دراسة حديثة بعنوان “الاقتصاد الزراعي والبيئي، 2024″ للدكتور يسري نصر أحمد بكلية الزراعة جامعة القاهرة، بأن إنتاجية القمح والأرز والذرة في مصر مهددة بانخفاض يراوح بين 10% و18%، مع ارتفاع كبير في أسعار السلع، وتراجع ملحوظ في الدخل الزراعي بنسبة قد تصل إلى 29%.
وتتفق هذه النتائج مع ما أظهرته دراسة نشرت بمجلة السياسة والاقتصاد (2020) للباحث وسيم رزق الله بعنوان تعزيز ممارسات الزراعة الذكية للتكيف مع التغيرات المناخية، التي اعتمدت على تحليل بيانات تمتد من 1985 إلى 2017، حيث أكدت وجود علاقة طويلة الأجل بين ارتفاع درجات الحرارة وتراجع إنتاجية القمح والذرة، مع تأثير ضعيف للأمطار على الزراعة المصرية. كما كشفت دراسة الدكتور السيد عبد الرحمن ” التأثيرات الاقتصادية للتغير المناخي على أهم المحاصيل الزراعية في مصر”، مجلة بحوث الزراعة في الشرق الأوسط (2022) عن تراجع إنتاجية القمح والذرة مع ارتفاع درجات الحرارة، في حين أظهر القطن قدرة نسبية على مقاومة التغيرات المناخية. وأوصت الدراسات مجتمعة بضرورة الإسراع في تبني الزراعة الذكية وتطوير أصناف زراعية مقاومة للحرارة، إلى جانب تعديل مواعيد الزراعة، وتوفير الدعم الفني والاجتماعي للمزارعين المتأثرين بالمناخ المتغير.

برنامج المنح الصغيرة: شراكة ذكية من أجل بيئة مستدامة
يُعد برنامج المنح الصغيرة واحدًا من أنجح آليات التمويل المجتمعي في العالم، حيث يقدم منحًا تصل إلى 50,000 دولار للمشروعات البيئية التي تنفذها منظمات المجتمع المدني. في مصر، تجاوز عدد المشروعات الممولة منذ انطلاق البرنامج عام 1992 أكثر من 355 مشروعًا، بحجم تمويل يتجاوز 9 ملايين دولار، بحسب بيانات الموقع الرسمي للبرنامج في مصر.
هذه المشروعات لا تهدف فقط لحماية البيئة، بل تضع الإنسان في قلب التنمية، من خلال دعم الزراعة المستدامة، وتمكين المرأة الريفية، وتدوير المخلفات، واستخدام مصادر الطاقة المتجددة.
نماذج من الميدان: حين يصبح الأثر ملموسًا
في محافظة الأقصر، وتحديدًا قرى “أرمنت”، أطلقت جمعية رواد المستقبل للتنمية الاقتصادية مشروع “معًا من أجل بناء مجتمعات زراعية مستدامة”. المشروع روّج لتقنيات مثل زراعة القصب بالشتلات واستخدام أنظمة الري بالطاقة الشمسية، ما ساهم في ترشيد استهلاك المياه وتقليل التكاليف وزيادة الإنتاجية. التجربة لم تكن مجرد توعية، بل تدريب عملي يُحدث فرقًا.
أما في قنا، فقد أحدثت جمعية الشروق لتنمية المرأة الريفية بنقادة نقلة نوعية من خلال مشروع “الإدارة المستدامة لمواردنا الطبيعية”، حيث تم تحويل مخلفات القصب إلى سماد عضوي وعلف، بدلًا من الحرق المكشوف الذي يتسبب في انبعاثات خطيرة.
وفي الأقصر، خاضت جمعية “نور الإسلام الخيرية” تجربة رائدة في إعادة تدوير روث الخيول وتحويله إلى سماد عضوي. نجاح التجربة تُوّج بمؤتمر موسع أُعلن فيه عن أول دفعة إنتاج، وسط حضور ممثلين عن الوزارات المعنية وخبراء التنمية.
في قرية العضايمة بالأقصر أيضًا، نفذت الجمعية القبطية للرعاية الاجتماعية مشروعًا لتطبيق الزراعة المتجددة عبر زراعة القمح على المصاطب. التقنية ساعدت في ترشيد المياه وتحسين التهوية وزيادة الإنتاجية، مما يجعلها نموذجًا فعالًا في مواجهة آثار التغيرات المناخية.

مدارس حقلية وزراعة مستدامة
وفي محافظة البحيرة، تتصدر الجمعية المصرية لتنمية المجتمع المحلي مشهد التغيير بمشروع “التكيف مع التغيرات المناخية وحماية الرقعة الزراعية”، حيث تم تنفيذ مدارس حقلية بمركزي كفر الدوار وأبو حمص.
بسمة الشحات، منسقة مشروع “التكيف مع التغيرات المناخية وحماية الرقعة الزراعية” بالجمعية المصرية لتنمية المجتمع المحلي بمحافظة البحيرة، تتحدث عن تجربة المدارس الحقلية التي نُفذت ضمن المشروع، وأثبتت فاعلية كبيرة في رفع وعي المزارعين بممارسات الزراعة المستدامة.
وأوضحت أن المشروع يُنفذ بالتعاون مع برنامج المنح الصغيرة التابع لمرفق البيئة العالمية، ويستهدف تقديم الدعم الفني والتدريب العملي للمزارعين حول آليات التكيف مع آثار التغيرات المناخية، من خلال تطبيق نماذج زراعية متطورة وصديقة للبيئة.

وأضافت أن المشروع ركّز بشكل خاص على تدوير المخلفات الزراعية كوسيلة لتعزيز الاستدامة وتقليل الانبعاثات الضارة، مشيرة إلى أن التدريب الميداني ساعد المزارعين على استيعاب هذه المفاهيم وتطبيقها بشكل مباشر في أراضيهم، وهو ما انعكس في تحسن جودة الإنتاج الزراعي وتقليل الهدر.
كما أشارت إلى أن المشروع لم يقتصر فقط على الجانب الزراعي، بل شمل أيضًا برامج تمكين اقتصادي للمرأة الريفية، من خلال إدماجها في أنشطة المشروع وتدريبها على كيفية الاستفادة من المخلفات الزراعية في إنتاج السماد العضوي.
زيادة الانتاجية
وأضافت الشحات، أن المشروع المُنفذ في مركزي كفر الدوار وأبو حمص على محاصيل القمح، البطاطس، الخرشوف وبنجر السكر، حقق زيادة في الإنتاجية بلغت 25%، إلى جانب خفض التكاليف بنحو %20%.
وأوضحت أن إنتاجية فدان البطاطس ارتفعت من 8 إلى 10 أطنان، وبنجر السكر من 20 إلى 25 طنًا للفدان، بينما زاد إنتاج الخرشوف من 30 ألف إلى 40 ألف ثمرة للفدان، ما يعكس الأثر المباشر للتوصيات الفنية والمدارس الحقلية التي ينفذها المشروع.

كما أشار إلى أن التكاليف انخفضت بفضل ترشيد استخدام الأسمدة والمبيدات ومياه الري والطاقة، خاصة في محصول القمح الذي شهد خفضًا في النفقات بنسبة تراوحت بين 20 و25%.
وأضافت أن المشروع يستفيد منه أكثر من 1200 مزارع بشكل مباشر، و9600 بشكل غير مباشر، ويتضمن أيضًا مدارس حقلية، وندوات توعية، ودورات تدريبية للمرشدين الزراعيين، إلى جانب 100 مشروع صغير لدعم المرأة الريفية اقتصاديًا، فضلاً عن إنتاج الكمبوست والسيلاج من المخلفات الزراعية، مما يساعد على خفض كلفة الإنتاج وزيادة العائد للمزارعين، وتوفير نحو 70 فرصة عمل.
زراعة ذكية ضرورة قومية
قال الدكتور يسري خفاجة، خبير الموارد المائية واستشاري التنمية المستدامة، إن برامج الزراعة المستدامة التي يدعمها برنامج المنح الصغيرة تمثل توجهًا استراتيجيًا حتميًا لمصر في ظل التحديات المتفاقمة التي تواجه القطاع الزراعي.
وأوضح أن الاستخدام المفرط للمياه في أنظمة الري التقليدية لم يعد مقبولًا في ظل ما تعانيه البلاد من ندرة مائية، وهو ما يجعل التحول نحو نظم الزراعة الذكية، واستخدام تقنيات الري الحديثة، وتدوير المخلفات الزراعية، خطوات ضرورية لتحقيق الأمن الغذائي والمائي في آنٍ واحد.

وأشار إلى أن المشاريع التي تم تنفيذها في محافظات مثل البحيرة وقنا والأقصر، قدّمت نماذج ناجحة على الأرض، خاصة فيما يتعلق بترشيد استخدام المياه، وزيادة إنتاجية الأرض، وتقليل الاعتماد على الكيماويات الزراعية، مؤكدًا أن مردود هذه المبادرات لا يقتصر على الجانب البيئي فقط، بل يمتد ليشمل أثرًا اقتصاديًا مباشرًا على دخل المزارعين.
وشدّد خفاجة على أهمية استمرار دعم مثل هذه المشروعات، وتوسيع نطاقها لتشمل مزيدًا من المحافظات، خصوصًا في صعيد مصر والدلتا، مع ضرورة دمجها في السياسات الزراعية الوطنية، وتحفيز الاستثمار فيها عبر شراكات بين القطاع الحكومي والمجتمع المدني والقطاع الخاص.
واختتم حديثه قائلًا: “برنامج المنح الصغيرة لا يقدم تمويلًا فقط، بل يعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والأرض، ويمنح المجتمعات الريفية أدوات واقعية لمواجهة آثار تغير المناخ.

الزراعة التي تُداوي الأرض والناس
بحسب تقرير نتائج برنامج المنح الصغيرة لعام 2023-2024، فإن أكثر من 86,000 هكتار من الأراضي استفادت من ممارسات مستدامة، وأثر البرنامج بشكل مباشر في تحسين سبل عيش أكثر من 40 ألف شخص حول العالم. وعلى الصعيد المناخي، تسهم الزراعة المتجددة في احتجاز كميات كبيرة من الكربون، وتقليل الانبعاثات، وتعزيز التنوع البيولوجي.
الزراعة المستدامة ليست مجرد تقنيات، بل هي فلسفة حياة. وبرنامج المنح الصغيرة يثبت أن التمويل الذكي حين يُوجَّه نحو الناس والأرض، يصنع أثرًا يفوق حجمه بكثير. إنها قصة أمل تُكتب من قلب الريف المصري، وتؤسس لمستقبل أكثر خضرة وعدالة.
المراجع:
- مجلة Nature Food – “Climate change and global crop suitability” – 2024
- يسري نصر أحمد – “تأثير التغيرات المناخية على إنتاجية محاصيل الحبوب الاستراتيجية في مصر” – مجلة الاقتصاد الزراعي والبيئي – ديسمبر 2024
- وسيم رزق الله – “أثر التغيرات المناخية على إنتاجية الحاصلات الزراعية في مصر” – مجلة السياسة والاقتصاد – يناير 2020
- السيد عبد الرحمن – “التأثيرات الاقتصادية للتغير المناخي على أهم المحاصيل الزراعية في مصر” – مجلة بحوث الزراعة في الشرق الأوسط – أكتوبر 2022
- الموقع الرسمي لبرنامج المنح الصغيرة في مصر – GEF/SGP Egypt – www.gefsgpegypt.org
التعليقات