في خطوة وصفت بأنها تحول نوعي في موازين القوة بإفريقيا جنوب الصحراء، أعلنت حكومة النيجر تأميم شركة “سوماير”، المختصة في استخراج اليورانيوم، والتابعة لمجموعة “أورانو” الفرنسية، ما يعكس تصعيدًا واضحًا في التوترات السياسية والاقتصادية بين نيامي وباريس، ويمثل ضربة استراتيجية للمصالح الفرنسية في القارة.
وجاء الإعلان وسط تصاعد مشاعر العداء لفرنسا في عدد من دول الساحل، في أعقاب سلسلة من الانقلابات العسكرية التي أطاحت بحلفاء باريس، وتنامي الحضور الروسي والصيني في المنطقة. وتمثل النيجر إحدى الدول الثلاث التي قاد فيها الجيش تحولات جذرية في المشهد السياسي، مما أعاد رسم خريطة التحالفات في غرب إفريقيا.
الخلفية: من الشراكة النووية إلى العداء السيادي
تمتلك “سوماير” أهمية استثنائية في معادلة الطاقة النووية الفرنسية، إذ تزود فرنسا بنسبة معتبرة من احتياجاتها من اليورانيوم الخام اللازم لتشغيل 56 مفاعلًا نوويًا تولد نحو 70% من الكهرباء في البلاد. ورغم ذلك، طالما اعتبر منتقدو باريس أن العقود الموقعة مع النيجر مجحفة، وتُفرط في استغلال مواردها بثمن بخس، دون أن تنعكس على تنمية محلية حقيقية.
وقد أدى الانقلاب العسكري في النيجر في يوليو 2023 إلى قطيعة تامة مع فرنسا، وإغلاق القواعد العسكرية الفرنسية، وإلغاء الاتفاقيات الدفاعية والتجارية، وصولًا إلى تجميد التعاون النووي بحكم الأمر الواقع، بعد أن فقدت “أورانو” السيطرة التشغيلية على “سوماير” خلال الأشهر الأخيرة.
تأميم بدلالات متعددة: من الاقتصاد إلى الجغرافيا السياسية
تأميم “سوماير” ليس مجرد نزاع تجاري، بل إعلان سيادي يعكس انتقال نيامي إلى نهج استقلالي جديد، في ظل بحثها عن شركاء استراتيجيين بديلين، لا سيما روسيا والصين، الذين أبدوا اهتمامًا متزايدًا باستثمار الموارد المنجمية في الساحل الإفريقي.
ويُعتقد أن هذا القرار سيفتح الباب أمام مفاوضات جديدة مع أطراف غير غربية لاستغلال المناجم، خاصة أن النيجر تحتل المرتبة السابعة عالميًا في احتياطيات اليورانيوم. كما يشكل القرار اختبارًا حقيقيًا لمكانة فرنسا الجيوسياسية، في وقت تعاني فيه من انحسار نفوذها في مستعمراتها السابقة.
انعكاسات محتملة على الأسواق العالمية
فرنسا ستواجه تحديات فورية في تأمين بدائل مستقرة لتوريد اليورانيوم، ما قد يؤدي إلى ارتفاع في أسعار الطاقة النووية وربما اضطرارها لإعادة النظر في عقود الإمداد من دول أخرى مثل كندا وكازاخستان.
الأسواق الدولية لليورانيوم قد تشهد تقلبات في الأسعار، خاصة إذا رافق القرار النيجر إعلانًا بتقييد أو إعادة توجيه الصادرات لمنح الأفضلية لحلفاء جدد.
على المستوى الإفريقي، قد يشكل القرار سابقة تُغري دولًا أخرى بإعادة التفاوض أو التأميم، لا سيما في مالي وبوركينا فاسو، حيث تتزايد النزعات القومية والعداء للوجود الفرنسي.
ردود فعل منتظرة
من غير المتوقع أن تمر هذه الخطوة دون رد فعل من باريس، التي تنظر إلى أورانو بوصفها ذراعًا سيادية للطاقة والأمن القومي. وقد تلجأ فرنسا إلى المسارات الدبلوماسية أو التحكيم الدولي للطعن في القرار، مع محاولة حشد الدعم الأوروبي ضد ما تعتبره “خرقًا لقواعد الاستثمار الأجنبي”.
في المقابل، يتوقع أن تلقى الخطوة ترحيبًا شعبيًا واسعًا داخل النيجر، حيث يُنظر إلى “سوماير” بوصفها رمزًا لعقود من الاستغلال وغياب العدالة الاقتصادية، فيما سيجعلها خصوم فرنسا في روسيا والصين نموذجًا لـ”التحرر الإفريقي الجديد”.
خلاصة: هل بدأت النيجر عهدًا جديدًا من السيادة الاقتصادية؟
قرار تأميم “سوماير” يشكل مفصلًا تاريخيًا ليس فقط في علاقة النيجر بفرنسا، بل في موقع الدولة الإفريقية على خريطة الاقتصاد السياسي العالمي. وإذا ما نجحت نيامي في تأمين بدائل تقنية وتمويلية لاستثمار المنجم، فقد تكون هذه الخطوة بداية مرحلة من التحرر المنجمي والاقتصادي في إفريقيا، تقلب موازين الهيمنة الغربية المستمرة لعقود.
التعليقات