التخطي إلى المحتوى
“سبنسة ” سعد الدين وهبة – مرآة اجتماعية برمزية كوميدية


تبدو مسرحية ” السبنسة ” من الوهلة الأولى أنها عملًا كوميديًا غايته التسلية، وكان هذا انطباعي في بداية مشاهدتي لها، لكن ما لبس أن تلاشى هذا الانطباع في مشاهدتي الثانية لها، كان في مكنون نفسي أن وراء هذا العمل رسالة مشفرة ومستويات دلالية غير التي بدت لي في أول الأمر.
بالتعمق في المستويات الدلالية والرمزية لهذا العمل المسرحي وجدت أنها تطرح تساؤلات جوهرية حول الإنسان وقيمته وما يدور في المجتمع من تفاعلات وتغيرات تطرأ عليه كل يوم، فإذا بي اكتشف بنية درامية جمعت بين الرمزية والواقعية ممتزجة بقالب من السخرية والتراجيديا.

وبالعودة إلى تاريخ كتابة ” السبنسة” نجدها كتبت بعد ثورة يوليو 1952 وبالتحديد في مطلع العقد السادس من القرن العشرين، وهي تحمل إشارات رمزية عديدة فقد تكون إشارة للحقبة الملكية وما بها من فساد، أو إشارة لحال المجتمع بعد الثورة واصطدام الحلم الثوري بالواقع، لكنها في النهاية هي تجسد أزمة الإنسان المصري في تلك  الحقبة الزمنية، وقد فكك سعد الدين وهبة من خلال ” السبنسة” جذور التواطؤ الجمعي والخوف الساكن في نفوس الأفراد بعرضه مظاهر القهر والاضطراب والتي تمثلت في حالة من الخوف العام لدي  جميع أطياف المجتمع، صور “سعد الدين وهبة” حالة اللامبالاة التي أصابت المجتمع، بداية من ” الخفير ” مرورا بضابط ” نقطة البوليس” وصولًا للعمدة والمأمور فالجميع عاجز عن قول ” لا” للظلم والفساد والانحراف أو حالة من التأقلم.

وقد رأى د. محمد مندور في كتابه ” في المسرح المصري المعاصر” أن ” كفر الأخضر” الذي بدأت فيه أحداث ” السبنسة” هي دلالة رمزية لوداي النيل ذو اللون الأخضر اليانع، باعتبار كفر الأخضر صورة مجازية للوطن، لكن مالا نتفق مع د مندور فيه هو محاولته قصر أحداث السبنسة على الحقبة الملكية المصرية، فالفترة التي كتبت فيها المسرحية هي نهاية الخمسينات مطلع الستينات أي بعد انتهاء الحقبة الملكية فما الداعي إذًا لاستخدام الرمزية في المسرحية!

ومن وجهة نظري أن وهبة قدم المسرحية في إطار نقد اجتماعي لما آل عليه المجتمع بعد الثورة، فالواقع الجديد لم يحقق طموحات الشعب بل أدى لظهور نوعًا آخر من القهر متمثلًا في البيروقراطية والتهميش وأستطيع القول أن ذكاء سعد الدين وهبة تمثل في جعل ” السبنسة عملًا شموليًا نستطيع إسقاطه على أي حقبة زمنية فهي لا تتعلق بفترة سياسية بعينها بقدر ارتباطها بالسلوك الإنساني ونقد البنية النفسية للمجتمع الإنساني بشكل عام.

واقعية وهبة جاءت باستقاء ” السبنسة ” من حادثة حدثت بالفعل في مصر داخل إحدى قطارات صعيد مصر، إذ قُتل شاب على يد مجموعة من الركاب، دون أن يحرك أحدًا ساكنًا، وجمل وهبة هذه الواقعة من أرض الواقع إلى خشبة المسرح، ولكنه عالجها في قالب كوميدي، ليكشف فيها عمق الأزمة التي يعيشها المجتمع، وقد عبر عن هذه الأزمة باختياره اسم ” السبنسة” كدلالة رمزية، فالسبنسة تطلق على العربة الأخيرة من القطار وفيها يركب المهمشون وتنقل فيها البضائع وأحيانًا الحيوانات! والسبنسة استعارة قوية للمجتمع المهمش أو الفئة التي دفعت إلى الهامش في ظل عالم تسوده المادية والقيم النفعية والخوف.

استطاع وهبة توحيد الزمان والمكان في بناءه الدرامي فإجمالي الأحداث تدور داخل عربة القطار في خط زمني متصل، ومن خلال وحدة الزمان والمكان بدأت الأحداث في التصاعد ليسهم هذا في تطور ونضج الشخصيات، بجانب الحوار المكثف الي امتاز بلغة واقعية قريبة من حياة المصريين اليومية لكن يجانب بساطة الحوار وواقعتيه إلا أن وهبة اسقله بالرمزية والتي صاحبها أحيانا الصمت، أو ما يعرف بدرامية الصمت كاللحظات الحاسمة  على نحو مقتل الطفل والتي رويت بالصمت والنظرات لا بالكلمات وهي تقنية استطاع وهبة توظيفها جيدا في بناءه الدرامي.

جاءت شخصيات العمل ثرية بما يكفي لتجسيد نماذج حية من المجتمع المصري كالطفل والمرأة والموظف والتاجر والفلاح، مثلت كل شخصية من هذه الشخصيات تعقيدات الواقع فهي لم تكن مجرد أدوات لتحريك الحبكة، بل كانت كائنات حية تحمل متناقضات النفس الإنسانية من خير وشر وجبن وشجاعة وهو ما جاعلها نماذج حية من المجتمع المصري في مرحلة هامة من تاريخه.

ففي شخصية الجندي نجد الصراع الداخلي لدى الشخصية فهو في حيرة من أمره بين ضميره وأوامر التي تفرض عليه من قبل المؤسسة، وكذلك الضابط الذي يتجاهل الخطر الحقيقي ويولي اهتمامه لـ ” العِجلة ” ” البقرة ” ولعل هذه الرمزية دلالة واضحة على الفساد الذي طال الجهاز الإداري بل المجتمع ككل فأصبح الانشغال بالمصالح الشخصية على حساب الوطن، وإذا نظر للفتى القتيل فهي استعارة لرمزية الطفولة لما تمثله من طهر ونقاء، وإذ وضعنا في عين الاعتبار الفترة الزمنية التي كتبت فيها المسرحية فإن  الطفل هو رمز للحلم الثوري الذي سكن في مخيلة الجميع وبقتله بهذه الطريقة المأساوية هو إجهاض للحلم وهي إشارة لحالة التبلد التي طالت الحس الجمعي.

إن رمزية في مسرحية سعد الدين وهبة جاءت مبكرة جدًا؛ فاختياره لاسم السبنسة هي في حد ذاتها رمزًا للبيروقراطية والروتين المتفشي في المجتمع، حاول وهبة عرض الحالة الاجتماعية المعتمدة على الشكليات والورقيات على حساب الجوهر والعمل الحقيقي من خلال موقف كوميدية لكنها كوميديا سوداء تحمل في طياتها السخرية والنقد الاجتماعي، عبر الكشف عن عبثية المجتمع ومواقفه السلبية في الحياة اليومية، فشخصية الفتوة هي رمز لتسلط السلطة والعنف البيروقراطي، فهي تحاول فرض سيطرتها عبر الترهيب تارة والتهديد تارة أخرى، وهي إشارة للجانب المظلم من عقدة النفس البشرية حال تمكنها ومحاولتها فرض السيطرة دون تحمل أي مسؤولية تجاه من تعول.

برزت الكوميديا في شخصية كهذه من خلال تصرفاتها المبالغة وتهديداتها المتكررة التي مع الوقت تتحول إلى حبر على ورق فتأتي السخرية والتهكم الاجتماعي من السلطة، ورمزية السلطة لا ترمز إلى السلطة التنفيذية في حد ذاتها، بل إلى حالة التخبط التي أصابت المجتمع القابع في الماضي بين بكاء على الماضي وانتظار معجزة الحاضر!
تتسع الأحداث وتتشابك الشخصيات فتظهر حالة الشك الجمعي التي أصابت المجتمع وانعدام الثقة بين الأفراد من جهة وبينهم وبين السلطة من جهة أخرى، وقد أظهرت كوميديا الموقف حالة التناقض بين جدية الموقف وعبثية النتائج فالمجتمع كله تحول إلى سبنسة.
نجد الموظف الحكومي قد انصهر في حالة من الروتين جعلته لا يرى إلا ” تستيف الأوراق” وهي مهمته الأعظم في الحياة! وهي رمزية تعكس الجمود الفكري وانعدام روح المبادرة والتي أدت بالتبعية إلى الحالة التي أدت لمقتل الطفل، فنحن في كل مشهد من مشاهد المسرحية نجد أنفسنا في حالة بحث دائمة عن مسؤول حقيقي عن السبنسة هذه الحالة هي في حد ذاتها إشارة إلى الضبابية التي طالت السلطة وغياب المساءلة الحقيقة والتي نتج عنها خلق حالة من الارتباك والفوضى.

ولعل شخصية الكاتب الغير قادر عن الخروج من حالة العفن الفكري التي أصابته هي إشارة لهذا فهو قابع داخل صندوق القوانين التي لا تناسب الحياة ولا روح العصر وهي إشارة واضحة لنقد المؤسسات التنفيذية.

وقد لجأ سعد الدين وهبة إلى الكوميديا لتخفيف حدة نقده، فاستخدامها كأداة لتفكيك الواقع، فكوميديا الموقف التي طالت السبنسة هي غطاء ساخر لواقع مرير، فالضحك لم يكن بريئًا بل هو ضحكًا كالبكاء! فجاءت في أشكال صادمة لمواجهة حالة التواطؤ التي أصابت المجتمع، فالكوميديا جاءت لكشف الحقيقة لا للهروب منها وهو اتجاه متسق مع المسرح الاجتماعي والسياسي.

واقعية سعدالدين وهبة لم تكتف برسم شخصيات ونماذج واقعية فالحوار جاء واقعيًا بلغة دارجة تعكس الحياة اليومية بكل تفاصيلها، ما أدى إلى تطور الشخصيات ونموها حتى الصمت وظف برمزية شديدة تعكس مقدار الألم ولعل مشهد مقتل الطفل واستخدام درامية الصمت هي أبلغ دليل على التوظيف الجيد لمفردات الحوار.

إنني أستطيع القول أن ” السبنسة ” هي تمثيل لمسرح العبث وغياب مفهوم الحياة، فالمسرحية غائب عنها المفهوم التقليدية كذلك الحبكة، فعلى الرغم من واقيتعها إلا أنها تشير إلى عبثية المصير، فالأحداث تدور في عربة مغلقة وإضاءة المسرح خافتة مع أصوات متداخلة حولت الفضاء المسرحي إلى عنصر شريك في بناء المسرح لا خلفية فقط، هذا الديكور يعكس حالة القهر النفسي والوجودي لدى شخصيات العمل حيث لا فكاك ولا أمل وهي استعارة للنظام الاجتماعي فلا إمكانية للنجاة الفردية، وبالعودة إلى الأحداث مرة أخرى نجد أنها تسير في عربة قطار دون توقف وهي إشارة إلى رمزية الحياة بجانب التكرار والحوار الدائري تجعل الحياة تسير وكأنها في حلقة مفرغة من القهر والخوف فلا الركاب يعرفون وجهتهم ولا القطار يتوقف، وهذا يتناسب مع ما تطرحه المسرحية من أسئلة فلسفية وجودية؛ فماذا يعني الصمت أمام الجريمة؟ وهو سؤلًا يحمل بعدًا أخلاقيًا؟ فهل الصمت خيانة؟ أم هو حالة من اللامبالاة؟ وهل يمكن اعتبار الصمت نوعًا من أنواع التواطؤ المجتمعي؟ ليأتي سؤلًا أخر تطرحه المسرحية ما هي مسؤولية الفرد وحدوه تجاه الجريمة أو العنف المجتمعي؟ كل هذه الأطروحات جعلت ” السبنسة” تحمل هموم الإنسانية منذ بدء الخليقة فهي نصًا خالدًا يمكن وضعها في أي مكان وأي زمان لقدرة النص على إعادة نفسه فهو لا يخاطب مجتمعًا بعينه وإن بدا لنا هذا! لكنه يخاطب البشرية منذ بدء الخليقة وصراع أبناء آدام إلى الحروب والصراعات الحديثة، فسعد الدين وهبة لم يقتصر طرحه على نقد السلطة بل الفرد أيضًا في موضع المساءلة! فهو لم يعف أحد من المساءلة، فغياب مفهوم البطل من العمل جعل الجميع في موضع إتهام وهو طرح فلسفي عن كيفية تحول النفس البشرية من حالة الصمت إلى حالة أقرب ما تكون إلى وحش جمعي يلتهم الضعيف أو غابة يلتهم القوي فيها الضعيف.
مزج سعد الدين وهبة عمله الفني هذا بين الواقعية والرمزية وحاول أن يخف من وطأة الرمزية بالكوميديا السوداء والمفارقات الساخرة  عبر وضع الجميع في عربة مجهولة المصير، الجميع يسير فيها دون أن يعرف أين قبلته! ولا أين يتجه! وماهي الغاية من سيره هذه؟

السبنسة هي مزيج من عادات وقيم نشأت في المجتمع بحكم العادة لا حد يعلم لماذا ولا أين ولا كيف، وهي بمثابة نقد اجتماعي بطابع فني متجاوز حدود الزمان والمكان، تبحث في أعماق النفس الإنسانية عن أسباب الخوف والخذلان والتواطؤ فهي دراما مركبة تطرح أسئلة كل عصر عن مفاهيم متجددة كالحرية والمقاومة ومعنى الحياة.

في النهاية السبنسة هي إحدى مسرحيات المسرح الفكري المصري، وإن كان توفيق الحكيم قدم المسرح الفكري في ذهن القارئ فإن سعد الدين وهبة يحسب له أنه استطاع أن ينقل هذا الفكر والمكنون النفسي إلى خشبة المسرح المصري.

 

 

 

 

 

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *